
كانت مخيلتي خصبة جداً وكنت صغيراً. كنت أيضاً أعاني من قصر النظر، وهذه على ما يبدو لعنة أصيبت بها العائلة أباً عن جد لسبب ما لا أعلمه، ولكني أظن أن لها علاقة بعمل سيء اقترفه أحد أجدادي السابقين، والله أعلم. وليس هذا موضع مناسب للحديث عن لعنات العائلة لسببين: أولهما عدم اتساع المجال في هذه المدونة لكثرتها، وثانيهما أني لا أريد أن أقطع بنصيب بنات وشباب العائلة العزاب.
على أي حال، كنت أرفض إخبار أهلي بمشكلتي هذه، أعني قصر النظر. وفي الليل كانت الخيالات الناتجة عن سقوط ضوء النواسة على موجودات الغرفة تشكل مادة صلصالية، تعمل فيها يدا مخيلتي الماهرة مستعينة بعدم قدرتي على تمييز الأشكال بدقة، لتصنع منها أشباحاً ووجوهاً مرعبة. كنت أحاول المقاومة، وكنت أغمض عيني لعلها تختفي لأفتحهما فأجدها أكثر رعباً ووحشية. ما العمل يا ربي؟ أخاف أن أنام فتبدأ بالاقتراب مني لتهاجمني.
في آخر المطاف كنت دائماً أصرخ باكياً مستغيثاً بأبي ليأتي ويرقد جانبي. يتكلم معي ويحكي لي القصص حتى أنام. وفي الصباح كنت أستيقظ كأن شيئاً لم يكن، فقد قالت العرب سابقاً (كلام الليل يمحوه النهار)، وأعود أنا (سبع البرمبة) الشجاع.
تكررت هذه القصة ليالٍ كثيرة، بحيث أني أجد نفسي وأنا أكتب هذه الكلمات الآن خجلاً جداً من أبي الذي كان يعمل لساعات طويلة في النهار وهو محتاج بشدة للنوم في الليل. وأجد نفسي أيضاً خائفاً بأن يرزقني الله بطفلٍ من شاكلتي ينغص علي نومي، فالدنيا كما تعلمون (سلف ودين).
وفي يوم من الأيام خطرت ببالي فكرة جهنمية. كنت قد اشتريت في أحد الأعياد من عيدياتي مسدساً صغيراً لعبةً على شكل ميدالية. وبما أن المثل يقول (لا يفل الحديد إلا الحديد)، قلت لنفسي بدوري (لا يفل الخيال إلا الخيال). في ذلك اليوم وضعت المسدس تحت الوسادة، حتى إذا أتى الليل وبدأت الأشباح بالظهور كنت أخرج المسدس وأبدأ بقنصها حتى تموت، فأغط بسابع نومة مطمئن البال قرير العين. استمرت الحال هكذا إلى أن ماتت جميع الأشباح شيئاً فشيئاً، وأصبحت جدران الحجرة مقابر جماعية لها. ويا دار ما دخلك شر.
الغريب العجيب في الموضوع أن أبي لم يتعجب من التطور السريع، بل أنه بدأ يفاخر بابنه ويقول لأمي أني بدأت أكبر وأعقل، ونسي أو بالأحرى تناسى في هذا الموقف مقولته الدائمة (الولد ولد ولو عمر بلد). وأنا لم أخبر إلا عدداً قليلاً من الناس عن هذه القصة الغريبة سابقاً، ولا أعرف لماذا أسردها على حضراتكم الآن! إلا أن لي عندكم رجاء، أن تخفوها عن أبي ليبقي فخوراً بي.
ذهبت أيام وأتت أيام، ذهب معها قصر البصر (استعانة بنظارة) وأتى قصر البصيرة، وبقيت المخيلة على حالها. وتبدل نور النواسة بنور الحقيقة اليومية المعاشة، والظلمة بظلمات نعيشها طوال اليوم في فلسطين والعراق وفي أقطارنا المتفككة من المحيط إلى الخليج. وأصبحت الأشباح أكثر حقيقية ووحشية وأكثر انتشاراً من جدران حدود البيت، وأكبر من أن أميتها بذلك المسدس الصغير الذي ضاع ولم أستطع العثور عليه إلى اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق