26‏/04‏/2009

ياسر الزعاترة: حول مخاوف «التشييع» مرة أخرى (منقول)

في قصة التشييع التي تثار بين حين وآخر قليل من المنطق وكثير من السياسة وتناقضاتها ، مع قدر كبير من الإساءة لأهل السنة والجماعة ، سواء صدرت تلك القصة عن بعض الأنظمة ومن يدورون في فلكها ، أم صدرت عن بعض المحسوبين على الصحوة الإسلامية ، فضلا عن صدورها عن متأمركين يكرهون الدين والمتدينين أيا يكن مذهبهم.
من المثير بالطبع أن نعثر على معزوفة التشييع عند أنماط من تلك الأصناف جميعا ، الأمر الذي يثير الكثير من الريبة لدى المراقب ، فضلا عن الحريص على دين الله ومصالح الأمة ، مع أننا لا ننفي أن من بين من يتحدثون في هذا الشأن مخلصون يعتقدون بأن الشيعة خطر وأنهم يمارسون التقية وأنهم عملاء لإيران الصفوية أو الفارسية المعادية للعرب ، إلى غير ذلك من المقولات.
ما ينبغي أن يقال ابتداءً هو أن أكثر إخواننا الشيعة قد ورثوا مذهبهم ، تماما كما ورث السنة مذهبهم ، وأن قلة من بين الطرفين قد غيّر مذهبه ، ما يعني أن كل طرف يؤمن بأنه الأقرب إلى الصواب ، ولذلك فإن تكفير هؤلاء أو هؤلاء بالجملة لا يمكن أن يكون صحيحا بحال.
كل ذلك لا ينفي ضرورة تفكيك هذه المعضلة في الإطار الذي نحن بصدده هذه الأيام ، والمتمثل في الحشد ضد الشيعة وإيران ، الأمر الذي يطرح السؤال التالي: هل إن هذه الأنظمة التي تتولى كبر الحشد معنية بالفعل بمذهب أهل السنة ، أم أنها تفعل ذلك من أجل أهدافها السياسية التي تلتقي غالبا مع أهداف نخبها الحاكمة أكثر من أهداف الشعوب والأمة؟
هل تنسى الأنظمة التي تحشد ضد الشيعة هذه الأيام كانت ترفض ذلك في مرحلة سابقة؟ وهل نتجاهل أن من يحشدون ضد إيران وحزب الله ، لا يفعلون ذات الشيء مع حلفاء إيران الشيعة في العراق لأن الأمريكان لا يسمحون بذلك؟ ألا يعني ذلك أن الموقف لا علاقة له بالدين بقدر علاقته بالسياسة ، وهنا تحديدا ينبغي أن نسأل عن المصلحة السياسية في تقديم الخطر الإيراني على الخطر الأمريكي الصهيوني ، وهل مثل هذه الأجندة مخلصة للأمة ، أم أنها جزء من منظومة تقف على النقيض من مصالح بعض الأنظمة؟
من المؤكد أن لإيران مشروعها في المنطقة ، وهي قوة كبرى معنية بالتمدد والنفوذ ، ولكن تركيا السنية لها ذات الطموح أيضا ، وعندما يتحدث أردوغان في كل مناسبة عن أجداده العثمانيين ، فإن لذلك دلالته المعروفة ، كما أن أحدا لا يرفض أن تكون لمصر على سبيل المثال طموحاتها في التمدد والنفوذ ، وقد كان لها شيء من ذلك أيام الحقبة الناصرية.
لم يمنع أحد الدول العربية الحريصة على السنة ومواجهة التشيع من مساعدة السنة العرب في العراق كما ساعدت إيران الشيعة ، لكنها لم تفعل.
ثمة بعدان مهمان هنا: يتعلق الأول بالإساءة التي توجه إلى مذهب أهل السنة عندما يصور هشّا يمكن لأي أحد أن يهدده ، مع أنه مذهب الغالبية الساحقة من الأمة: كان ولا يزال بسبب ما يملكه من منطق متماسك وانتماء إلى روح الدين ، وليس بسبب السطوة السياسية كما يشيع البعض ، بدليل أن شيعة حكموا في فترات مختلفة أكثر مناطق العالم الإسلامي لكن مذهبهم بقي محصورا في مناطق معينة.
البعد الثاني هو الصورة التي يعطيها مثل ذلك الخطاب لمذهب أهل السنة عندما يكون الشيعة في مربع التصدي للكيان الصهيوني والولايات المتحدة ، بينما يقف الطرف السني في مربع حصار الفلسطينيين وملاحقة المقاومة والخضوع للإملاءات الخارجية.
لقد آن أن يعيد العقلاء النظر في هذه المقولات ، ولا يركنوا إلى ما تقوله بعض الأنظمة ، لأن بوصلة جماهير الأمة وقواها الحية ينبغي أن تبقى في الاتجاه الصحيح ، وهي كذلك رغم الحشد الإعلامي ، من دون أن ننفي تأثر البعض بالحملة السائدة.

وليد سيف يكتب: فلسطين.. الذاكرة التي تحرس الحلم! (منقول)


حقٌّ يأبى النسيان.. هذا ما نعرفُه نحن كما نعرفُ أنفسَنا وآباءَنا وأبناءَنا.. ولكنَّ العجَبَ ألا يُدركَه العدوُ الإسرائيليُ بعدَ كلِّ هذه العقودِ من الاغتصابِ والاحتلالِ والصراعِ والمقاوَمة!
ألم يأْنِِ له أنْ يعلمَ أننا لن نكُفَّ مهما يَزِدْ من وتيرة بَطشِه واستكبارِه، ومهما يَطُلِ الزمنُ وتَتَوالَ الأجيالُ! ألا يرى أنه على الرغم من جُدُرِهِ المُشيَّدةِ بالدباباتِ، قد بلعَ منجلاً علقَ في حلقِه، فلا هو يستطيعُ أن يستكمِلَ بلعَه، ولا هو يستطيعُ أن يسحبَه! ألا يرى أن جُلَّ ما يجري في الساحة العالميّةِ من مظاهرِ العنفِ والتوتُّرِ والصراعاتِ التي تهدّدُ الأمنَ الدوليَّ والإقليمي، تقعُ في المنطقة العربيةِ والعالمِ الإسلامي، وأن لها صلةً ما بالقضية الفلسطينيّة والمواقفِ الدوليةِ منها؟
وإلامَ يبقى قادراً على تضليل الرأي العامِ العالمي إذ يصرِفُ المسؤولية عن نفْسِهِ في خَلْقِ هذه الظروفِ، لِيَنْسبَها إلى الطرف الآخرِ الذي يأبى الخضوعَ والنسيان؟ ألا يرى أن استمرارَ هذه الأوضاعِ وتفاقمَها لا بد أن يُقنِعَ شعوب العالم -ولا سيّما الشعوب الغربية- أخيراً بأن المشروعَ الصهيونيَّ والدولةَ العبريّةَ هما أخطرُ ما يُهدّدُ الأمنَ الدوليَّ، وأن كلفَتَهما ترجحُ جدوى الوظائفِ الإستراتيجيةِ التي يتوخاها الغربُ الإمبرياليُّ منها؟! فإذا أدركَ العدوُّ الإسرائيلي هذا أخيراً، فما عساهُ يفعل؟
ذلكم هو السؤالُ الوجوديُّ الذي يتهرّبُ العدوُّ الإسرائيليُّ من مواجهتِه. ولكن، حتامَ؟
إذا كانت "إسرائيل" تُراهِنُ على دَيمومة الضماناتِ التي توفِرُها لها القوى الدولية الراهنةُ، وعجز النظامِ العربيِ الرسمي الذي أسقَطَ خياراتِ الحربِ والمواجهةِ العسكرية، فإن هذا من قصرِ النظر بالمعيار التاريخي، إذ إن أحوالَ الدولِ وعلاقاتِ القوّةِ ليست حقائقَ مؤبَّدَةً. وللشعوبِ والأممِ عاداتُها، إلا إذا صدّقنا ما يحاول دعاةُ "الواقعية السياسية" الجديدة أن يُلقوه في رَوْعِنا من أن الشعوبَ مجرّدُ قطيعٍ من الغوغاء الذين يجمعُهم طبلٌ وتفرِّقُهم عصا.
فما بالُ حركاتِ العنفِ والاحتجاجِ والتمرّدِ والرفضِ التي أقامت الدنيا ولم تقعدْها؟ وما بالُ إيرانَ التي تحوّلتْ من شرطيٍّ أميركيٍّ متحالِفٍ مع إسرائيل أيامَ الشاه، إلى لاعبٍ رئيسيّ في الصراع؟ وما بالُ تركيا التي خرجت من بزتها العسكرية الفاشيّة تتحوَّلُ من قاعدةٍ مساندةٍ لإسرائيل إلى دعمِ المقاومة الفلسطينية؟ وما بالُ الإمبراطورية الأميركية -ومعها أوروبا- تُقِرُّ أخيراً أنها لا تستطيعُ القضاءَ على حركات العنف والإرهاب بالوسائل العسكرية وحدَها فَتَشِي بإمكانيةِ التفاهم مع "طالبان" في أفغانستان وباكستان، كما تفاهمت من قبلُ مع المحاكم الإسلامية في الصومال تفاهماً أفضى بها وبرئيسها إلى الحكم وسُدّةِ الرئاسة، بعد أن كانت معدودةً في الحركات الإرهابية ذاتِ الصلةِ بالقاعدة!!
وما بالُ هذه الشهاداتِ الجديدةِ التي تعرضُها أجهزةُ الاستخبارات الأميركية أمامَ الكونغرس حولَ براءة البرنامج النووي الإيراني من الأغراض العسكرية؟! وما بالُ الإدارة الأميركية قد دَعَتْ إيرانَ للمشاركة في مؤتمرٍ حولَ أفغانستان؟ وما بالُ هذه الوفودِ والشخصيات الأميركية الرسميةِ تتوالى على زيارة سوريا، بينما تثوبُ الدولُ العربيةُ المتخاصمةُ إلى المصالحة التي طالما دَعَوْنا إليها؟ وأخيراً ما بالُ بعضِ الدوائر الأوروبية قد بدأت تتحدث مع "حزب الله" باعتباره جزءاً من النسيج الوطني اللبناني، وتُبدي استعدادَها للتواصل مع "حماس"؟
أليس في هذا المشهد السياسيّ الإقليمي والدوليّ المتغيرِ دليلاً واضحاً على أن أحوالَ الدول وعلاقاتِ القوة ليست حقائقَ مؤبَّدةً لتكونَ ضماناتٍ ثابتةً لدولةِ الاغتصابِ والإحلال والاحتلالِ في مواجهة حَقٍّ يأبى النسيانَ، وشعبٍ فلسطيني لا يَكُفُّ، ومحيطٍ شعبيٍ عربيٍ إسلاميٍّ تتنامى مَراراتُه ثم تتفجّرُ في وجه نظام عالميٍّ ظالم؟ أليس في هذا المشهد المتغيّر ما يدلُّ على أن تكاليفَ التوسُّّع الإمبراطوري تصلُ في لحظة تاريخية ما إلى أن تزيدَ على مردودِه وأرباحِه؟! وهل يمكنُ تجاهلُ الأزمة الاقتصادية العالميّةِ الراهنةِ ودورِ تداعياتها السياسيةِ في المشهد السياسي الدولي والإقليمي المتغيّر؟!
لا نحسب أن رِهانَ الغاصِبِ كان على قوّة الدبابة في المقام الأول، فهذه رهينة الظرفي المتغير. وإنما كان الرهانُ الإستراتيجيُّ الأهمُّ على اقتلاع الذاكرة وإطفاءِ الحُلُم وتغييبِ الهوية وتقويض الروح واغتيالِ المعاني وتبديلِ الروايةِ التاريخيَّةِ وتزييفِ الوعي. فهذه هي الأصولُ التي ما دامت حيّةً ضاربةً في الأرض، فلا بُدَّ أن تؤتِيَ أُكُلَها وتطرَحَ ثِمارَها في آخر المطاف، وإن تأخَّرَ الموسم.
وها هي الذاكرةُ الفلسطينيةُ -بعد ستةِ عقود ونيّفٍ- قد أثبتت صمودَها لاختبار الزمن، وهي الآن لا تُحيلُ إلى الماضي إلا بقدر ما ترفدُ حركةَ الحاضر وتحرسُ الهويّةَ وتصوغُ الحُلُمَ وتُضمِرُ المستقبل. الذاكرةُ الفلسطينيّة هي الفضاءُ الذي يلتقي فيه الأشتاتُ وتلتئمُ الأشلاءُ وتجتمع الأجيال، ويعودُ فيه الشهداءُ لعِناقِ أحبابهم.
بعدَ ستين عاماً ونيّف، ما تزال الذاكرة الفلسطينية عامرةً بالسنديان العتيق، والزعتر الجبلي، وشقائقِ النعمان، والسلاسلِ الحجريّة، وأجنحة السنونو، وأغصانِ الزيتون، ومواسم البرتقال، والمحاريث القديمةِ وجباهِ الصخر، ودخانِ القُرى، ورائحةِ التراب عقبَ المطرِ الأوّل، والأغاني الرعويّة المنبثقةِ من عمق الزمان وأغوار الروح، والقمرِ الذي يدرج كل ليلة على بيادر الحصاد ويسترقُ النظرَ من النوافذ الوطيئة، وضحكات النصراويات اللواتي ينزلن إلى مرج ابن عامر ليقطفنَ الثمرَ والقلوبَ والنجوم!
بل نذهبُ إلى القول إن الفلسطيني لم يتشبّثْ بذاكرتِه تشبُّثَهُ بروحِه فحسب، وإنما ارتفع بأشيائها إلى مستوى الرموز الوجوديّة، وأضفى عليها لوناً من القداسة الحائمة بين الأرض والسماء، حتى خشينا أن يتاخمَ حدودَ النرجسيّة الوطنيّة وتضخم الأنا الجَمعيّة! وهو الذي افترض الآخرون أن النكبةَ والتشريدَ والجوعَ والشقاءَ واللجوءَ تلزِمُه الخضوعَ والتخاشعَ والتصاغُرَ، والمشيَ بحذاء الحائط والاكتفاءَ بطلب السِتر.. وربما بعضَ العطف والإشفاق!
وإنها لَتبدو مُفارَقَةً لأول وَهْلَةٍ.. أن يتعاظَمَ المنكوبُ بنكبتِه، ويَتيهَ المُشَرَّدُ بهويتِه، ويستعليَ بحائط كرامتِه، على ما أصابه من المِحن والمآسي والنكبات.. حتى حارتْ مشاعرُ الناس فيه.. فثمةَ من تستفزُّه الصورةُ ويراها ضرباً من "النمردة" لا تتناسب مع ما يُتوقعُ من تخاجل المنفي الطريد الشريد.. وثمةَ من يتطلعُ إليها تطلُّعَهُ إلى أُنموذج السبق والتفوّق والحيوية والصمودِ في وجه المِحَن، و.. نعم، ثمّةَ أخيراً مَن يوشكُ أن يحسدَ الفلسطينيَّ على دمهِ النازفِ وجنازاتِ شهدائه، بقدر ما تفضح هذه نقائضَها: الخنوعَ والقعودَ والتخاذل!
مفارقات.. نعم ولكنها ما تلبثُ أن تنقشعَ حين يستبطنها الوعي. لم تنخذلْ روحُ الفلسطيني المخلوعِ من وطنه، لأنه حَمَلَهُ في وعْيهِ ووجدانِه وذاكرتِه وحُلُمِه، ولم يُسلِّم يوماً أنه الفردوسُ المفقودُ إلى الأبد. لاجئ في المنافي! ولكنَّ الأرضَ لاجئة في جراحهِ كما قال محمود درويش ذاتَ شهادة!
في ضواحي الطفولة البعيدة، حين تَفَتَّحَ وَعْيُنا الأوّلُ بُعَيْدَ النكبة، كان أول ما نخطّه بالطبشور على السبّورةِ والحائطِ والإسفلت: فلسطين.
وحين يُطلب منا في درس الإنشاء أن نكتب في موضوع حرٍّ نختاره، فالخيارُ فلسطين وحلمُ التحرير والعودة. فقد استقرّ في وجداننا أن قضيتنا شرطُ وجودنا. وفي غمرة ذلك كلَه، كدنا ننسى أن الضفة الغربيّةَ التي نعيش فيها جزءٌ من فلسطين.. حتى كأن اسمَ فلسطين مختصٌ بالشطر السليب منها ذلك الحين. فكيف يمكن للوعي أن يقلبَ عاداتِه، حين يُطلبُ منه تحت وطأة الاحتلال الثاني وتداعياته أن يختصَ الشطرَ المحتل عامَ 1967 باسم فلسطين، وينسِبَ إليه وحدَه صفةَ "المُحتل" دون سائر الوطن! هنا يكمن التحدّي العظيمُ..
كان مرجعُنا شِرعةَ الحق والعدل وشرعيةَ الثورة والمقاومة حتى التحريرِ الشامل، ثم غلبت عليهما شرعة الإمبراطورية الغاشمة التي تتقنعُ باسم الشرعية الدوليّة. وليدُر الجدالُ بعد ذلك بين "واقعيّة" أكثرُ ما يعيبُها أنها صناعةُ القوّة المتغلّبة، وأن الذي يملك القدرةَ على تعريفها هو الإمبراطورية التي احتكرت لنفسها تقديرَ الأقدار وتمصيرَ الأمصار.
ومع ذلك فهي تتركها بلا تعريف واضحٍ نحتكم إليه.. فليدُر الجدال بين هذه "الواقعيّة" وشرعيةِ الحق الذي يمتلك أصحابُه المعانيَ والدماءَ المستعدّةَ للاشتعال، دون الدبابة والمدفع.. وليدُر الجدالُ بين الظرفي المرحلي المحكومِ بعلاقات القوّة السائدة، والإستراتيجي التاريخي المحكومِ بتغيّر الشروط والظروف في مستقبلٍ مفتوحٍ قد لا نرى الآن ضِفافَه! وليدُر الجدالُ بين من يرى السياسةَ فَنَّ الممكن، ومن يراها فضلاً عن ذلك، فَنَّ العمل لخلق شروطِ الإمكان!
ليدُر الجدالُ بين طَهورية الحق وأوحالِ الواقع.. بين اكتمال الوطنِ ونقصانِ الدولة..
فلْيَدُرْ كلُّ هذا الجدالِ، فإنه إذا انتظم في فضاء الإخلاص، وانضبط في حيّز الجماعة الوطنية، واحتكم إلى الشعب، يمكن أن يكون تدافعاً وطنياً فذاً بين طرفين متشارطَين لا متفاصِلين.. ولكن دَعُونا نجتمع على كلمةٍ سواءٍ.. وهي أن الدولةَ التي يمكن أن تُولدَ بين فَرْثٍ ودَمٍ، ليست اسماً مُرادِفاً لمعنى الوطن، ولا هي حدود مقاسِه. فالوطنُ الفلسطيني لا يقبلُ القسمةَ، والواقع المتعَيِّنُ الذي تنتجُه معادلاتُ القوّةِ ليس مُرادفاً لمعنى الحق.. الوطنُ هو الحَقُّ، والدولةُ المحتمَلةُ في هذا الظرف، هي الواقع.
وهو لا يغني من الحق، والحق يُعرِّفُ نقيضَه الباطلَ، مثلما تُعَرِّفُ الضحيةُ جلادَها. فإذا حالت القوَّةُ الطاغيةُ -على فترةٍ من الزمان- دون تطابق الحق مع الواقع، فإن الأولَ يبقى ماثلاً في الضمير والوجدان والذاكرة والحُلُم واللغة، وينتصبُ جداراً منيعاً ضد اقتحام الروح التي لن تَكُف عن حُلُم الانبعاث من جديد في جسمها القديمِ الممتدِّ من رأس الناقورة إلى رفح، ومن النهر إلى البحر.
ولذا، فإن التفاوتَ القسيَّ بين مُنْجَز الواقع الظرفي ومَطلبِ الحق التاريخي، لا يُلزِمُنا أن ننسى، ولا أن نسامحَ! كما لا يُلزِمُنا أن نفتحَ فضاءَ الروح والوجدان والضمير لجلادِنا أبداًَ.. ولا أن نعيدَ تعريفَه أو نُبَرئ ذِمَّتَه الأخلاقية بأثَرٍ رجعيٍّ أو نُسَمِّيَهُ بغير أسمائِهِ المُنْكَرَة. فهذا هو خطُ الدفاع الأخير، ومجالُ المقاومةِ المستمِرَّةِ إذا سكتت البنادق!
إنه صراعُ المعاني والرموزِ والرواياتِ المتعارضةِ.. وهو ما نملكُ القدرةَ على الفوز فيه.. فالوطنُ الذي يملؤه عَدُوُّنا، لا يملأُ غيرَنا! وكتابُ الوطن الذي يستعصي على الترجمة، لا يستطيعُ قراءَتَه وفهمَ مفرداتِه غيرُ الذين كتبوهُ بِقَدْر ما كتبهم..
فقط انظروا الفرقَ بين مِخيالِنا ومِخيالِهم..
مِخيالُنا يَسْتَمِدُّ مكوناتِه من رموز الوطن وتجلّيات الأرض وبَوْحِها الخالد.. أما المِخيالُ الإسرائيلي فيستَمِدُّ من مفارَقات وجودِه وفضائِه الاجتماعي المدني المجلوبِ والمُستَعارِ من مدينةٍ بعيدةٍ قَتَلَتْه فيها ثم أحيَته عندنا لتقتلَنا به.
فهو يدينُها بقدر ما يَدين لها.. لم يفارقْها ساخطاً لاعناً إلاّ ليُعيدَ إنتاجَها في أرضنا، والسَوْطُ الذي جلَدَتْه به هو السوطُ الذي أعارته إياهُ ليجلدَنا به، يُحَمِّلُها آثارَ جراحه، ثم يتباهى بأنه امتدادٌ لها ولِقِيَمِها الحضارية في محيطٍ مغاير.
وكما يستمِدُّ من الدولة البعيدة التي خرج منها، يستمدُّ من دولتِه الجديدة ونطاقِها المدني ومُلابسات نظامها وحيرتِها الأخلاقية وغُربتِها عن الأرض التي رُفِعَت عليها.. ولكنه أبداً لا يستمد من كتاب الأرض.. وهو وإن كان قادراً على صنع الدبابّة، عاجزٌ عن صنع مَوّالٍ بلديٍّ واحدٍ يختزل ذاكرةَ الأرضِ وأسرارَها.
وبين المدينة البعيدة التي هيأت له أسبابَ الخروجِ منها والدخولِ في لحمنا، والمدينةِ الجديدة التي حاصر نفسَه فيها وراءَ جُدُرٍ مُشيَّدةٍ، لا يجِدُ ما يُعَتِّقُ به وجودَه إلاّ كتابَ الأساطيرِ القديمة.. وهيهات!!
في مِخيالِنا تُنتِج الأرضُ أساطيرَها.. وفي مِخيالِهم تُحاول الأسطورةُ عبثاً أن تنتج الأرضَ.. فأي فرق!
وأيُّ شهادةٍ أحسنُ من شهادةِ الجلادِ في ضحيّته! ففي لحظة بَوْحٍ نادرةٍ اعترف الجنرالُ الغارقُ في متاهةِ دمائنا (شارون) أنه يحسدُ الفلسطينيَّ على حضور الأرضِ الطاغي في أدبِه وشعره.
نعم.. لن تجدَ بين الإسرائيليين من يشبهُ ذلك الشيخَ الفلسطينيَّ الذي يسنِدُ ظَهرَهُ وروحَه إلى سلسلةٍ حجريّةٍ في الفضاء الريفي المفتوح، ثم يُرسلُ نَظَرَهُ في المكان، ويُشيرُ بيده مستدعياً منه وإليه صورَ طفولته البعيدةِ وصِباهُ الأولِ وذاكرةَ آبائه وأجداده، فيخيّل إليك أن الحجرَ والشجرَ ينطقانِ بصوتِه المتهدّجِ العميق. ولن تجدَ بين الإسرائيليين مثلَ تلك العجوزِ التي تحتضِنُ جِذعَ شجرةِ الزيتون احتضانَها لأَبٍ لا يَكُفُّ عن الحضور من عالَم الأمواتِ ليتفقدَ أرضَه وزرعَه، واحتضانَها لحفيدٍ لا يملكُ تَرَفَ البقاءِ طويلاً في ضاحية الطفولة..
كلُّ هذه لا تحملُ أيَّ دلالاتٍ وجدانيةٍ ومعانٍ رمزيّةٍ في مِخيال الإسرائيلي الحائر بين غربٍ ينتمي إليه ولا يُقيم فيه، وشرقٍ يُقيم فيه بقوّة الجَبْر ولا ينتمي إليه، فلا تَوافقَ ولا تَكامُلَ بين مُحتَوى الوعيِ وذاكرةِ المكان، أو بين الجغرافيا والتاريخ: أزمةٌ وجوديّةٌ لا حلّ لها، وهويّةٌ جَمْعيّة لا تكتملُ أبداً.
ولقد يفسّر هذا لماذا أردفَ العدوُّ اغتصابَه للوطن الفلسطيني بانتحالِ بعضِ عناصرِ التراثِ الشعبي الفلسطيني ورمزياتِهِ. وإذا كان الوطنُ مِزاجَ الجغرافيا والتاريخ والإنسان، فيمكن القولُ إن إسرائيلَهم في جوهرها دولةٌ لا وطن. أما فلسطينُنا فوطنٌ حيلَ بينه وبين دولتِه. دولتُهم لم ينتجْها وطنٌ، وليس في وسعها أن تُنتِجَ وطناً.
أما الوطنُ فهو الشرطُ الدائمُ للوجود والهويةِ المكتملة، ما دام ماثلاً في الوعيِ والوجدانِ والضمير، بوصفِه حقاً يأبى النسيانَ. والأوطانُ الباقيةُ لا بدّ أن تترجم عن نفسها أخيراً بالدولة. الوطن -بعبارة أخرى- يضمرُ الدولةَ، أما الدولةُ المجلوبةُ فلا تضمرُ وطناً!
في ضوء هذه المعاني، فإن إسرائيل وإن كانت دولةً قويّةً بالمعايير العسكريّة والدعم الخارجي، فإنها تبقى بالمعايير الوطنيةِ والتاريخية والحضارية والثقافية، هويّةً هشّةً ناقصةً، وواقعاً طارئاً غيرَ مفروغٍ منه، ووجوداً قلِقاً غيرَ مأمونٍ ولا آمن. ولربّما يفسّر لنا هذا لماذا يتسلّطُ هاجسُ الأمن على العقل الإسرائيلي، على الرغم من التفوق العسكريِّ والترسانة النوويّةِ الضخمة. وفي تقديرنا أن هاجسَ الأمن هذا ليس فقط ذريعةً سياسيةً تتوسلُّها إسرائيل، بل هو أيضاً نِتاجُ ذلك القلقِ الوجوديِّ العميقِ الذي تحدثنا عنه.
نعم.. إننا ننتصر في معركةِ المعاني والرموز.. في معركة الذاكرةِ والحُلُم، ولذلك لن ننسى.. ولن نسامحَ.. وليس في وُسع أي تسويةٍ سياسيةٍ منقوصةٍ أن تلزمَنا ذلك.
وهنا، عَوْدٌ إلى بَدْء..
فمعركةُ المعاني تُحيلُ من جديد إلى الفضاء العربي الذي تنتظمُ فيه قضيتُنا الفلسطينية.. كان شعارُنا بعدَ "النكسة" أن المقاومة الفلسطينيّة رأسُ الحَربة العربيّة التي لا تكتملُ إلاّ بعمقها العربي. وإذا كان المشروعُ الصهيوني ينتظمُ في المشروع الاستعماري للهيمنة على الأمة العربية وتقويضِ مشروع نُهوضِها، فإن ذلك يفرض بالضرورة شكلَ النقيض ومَداه: أن يَتَشارَطَ هدفُ التحرير الفلسطيني وهدف النهوض العربي.
صحيحٌ أننا أخفقنا في ترجمة هذه العلاقة الشرطيةِ من الطرفين، وأن هذا الإخفاقَ قد أسهم فيما أفضينا إليه من المفارقة بين الحق والواقع. ولكن ذلك لا ينبغي له أن يُسقِط المبادئ ولا أن يصادَرَ على المستقبل. فالصراعُ من أجل النهوض العربي يبقى قائماً، ونحن جزءٌ منه. وهو يضمرُ بقاءَ الحُلُم الفلسطيني غيرِ المنقوص. والشرطُ في ذلك أن نبقى على صمودنا في معركة المعاني، فلا نُطابِقُ بين مفهوم الدولةِ ومعنى الوطنِ في الظرف القائم، ولا بين مفهوم الواقعِ ومفهومِ الحق.. وعليه، لا ننسى ولا نُسامِحُ ولا نُبَدِّلُ الأسماءَ والصفاتِ، ولا نُغيّرُ روايةَ النكبة والظلمِ التاريخي الذي وقع علينا.. أبداً!
وإذا كانت الشروطُ الظرفيةُ لم تُفْضِ بالأمة العربية إلى عبور رأسِ الجسر الفلسطيني صوبَ البحر الفلسطيني، فإن شطراً من مقاومتِنا القادمةِ أن نمنعَ عدوَّنا من اتخاذِنا رأسَ جسر له نحوَ العُمْقِ الشعبي العربي، في ظِلّ أي تسويةٍ سياسيةٍ محتملة. فنحن سَدَنَةُ الذاكرة، ينسى الآخرون بنسيانِنا ويذكرون بذاكرتِنا.. ويُعَرِّفون العدوَّ بتعريفاتِنا..
بخلافِ الهوياتِ القُطْرِيَّةِ العربية الأخرى، لم تنشأْ هويتُنا الوطنيةُ الفلسطينيةُ نقيضاً للهوية العربيةِ أو بديلاً عنها، وإنما نشأتْ وتعزّزتْ على خلفِيَّةِ الصراعِ مع النقيضِ الصهيوني. وهم يَسْعَوْنَ الآن إلى تجريدها من هذه الخلفيةِ ومن هذا السياق، في إطار مشروعِهم الذي يرمي إلى إعادةِ تعريف المنطقة، من وطنٍ عربي يتعرّفُ بهويِته القوميةِ الحضاريةِ ولا يستطيعُ المشروعُ الصهيونيُّ أن يَنْتَظِمَ فيه، إلى شرقٍ أوسط جديدٍ تتشاركُ فيه دولٌ تنطِقُ بالعربيةِ وأخرى بغيرها، وتندمجُ فيه "إسرائيل" من موقعٍ مركزيٍّ مُهَيمِنٍ لتؤدِيَ وظائِفَها الإستراتيجيةَ وكيلاً عن المركز الإمبراطوري.
بل يذهبُ المشروعُ إلى أبعد من ذلك، وهو إعادةُ تشكيلِ الدولةِ العربيةِ القُطْرِيةِ نفسِها، أو تفكيكُ بُنْيَتِها الاجتماعيةِ السياسية، لِتَصيرَ ائتلافاً هَشّاً لمنظومةٍ من العُصَبِ العِرقيةِ والطائفيةِ والقَبَلِية. كأنَّ التجزئةَ القُطْريةَ نفسَها لم تكن كافيةً لتقويضِ المشروعِ القومي النهضوي. فالدولةُ القُطرية القائمةُ -على ما فيها- ما زالت تنتسِبُ إلى الهوية العربية، وما زالت تستخدمُ مفرداتِ النظامِ العربي الإقليمي مهما تكُنْ دلالاتُهُ العمليّة.
أما إذا صارت -كما يُرادُ لها الآن- منظومةً من العُصَب العِرقية والطائفية والقبَليّة، فإنه لا يصحُّ لها أن تُعرّفَ نفسَها بصفة العُروبة، حتى وهي تُقدّم هويتَها القُطريةَ على الهوية القوميّة!
ولو أُتيحَ لهذا المشروع الاستعماري الجديدِ أن يتحققَ، فإنه يعني خَلْقَ شروطٍ بُنْيَوِيَّةٍ جديدةٍ لِدَفْنِ مشروعِ النهوض العربي وتأبيدِ حالةِ التَبَعِيّةِ، وهذا بِدَوْرِه يُضمِرُ وَأْدَ الحُلُمِ الفلسطيني الممتدِّ على مساحة الوطن، والمماهاةَ بين مفهوم الحق ومفهومِ الحلّ السياسي، وإعادَةَ كتابةِ الرواية الفلسطينية ليَسقُطَ منها الماضي.. والماضي في حالتنا الفريدةِ، هو حارسُ الحُلُم والمستقبل.
ألم نَقُلْ: هي معركةُ المعاني والتعريفاتِ التي تَتَنازَعُ على تشكيلِ المَشهَد المتعيِّن؟
وإذن، فنحن أحوجُ من أي وقت مضى إلى تأكيد العُمق العربي لهويتنا ووطنِنا وقضيتِنا، وإلى إعادة الاعتبار لجَدَلية النهوض العربي والنضالِ الفلسطيني وأن أيَّ إنجازٍ حقيقيٍ في أحد المجالين المُتَشارِطَين يُضمرُ إنجازاً في الآخر. وهذا في الأصل هو فضاءُ الصراع الذي رَسَمَ حدودَه العدوُّ نفسُه.
...
لو كنتُ "إسرائيلياً" وتقمّصتُ روحَ الفلسطيني ساعةً من الزمان، لَمُلِئْتُ بعد ذلك رُعباً، ولآثَرْتُ الرحيلَ من أرضٍ لا ترتحلُ من ذاكرةِ أبنائِها.
أطفالٌ في مخيماتِ المَنافي لم يَُرَوا فلسطينَ ولم يشمّوا ريحَها، تسألُهم أن يَدُلّوك على بيت أحد سكان المخيَّم، فيسألونك: من أين هو؟ فتحارُ لأوّل وهلةٍ.. كيف يسألونَك عن مكانه وأنت السائل؟ لتدركَ بعد لحظات أنهم يَعْنون بلدَ الأصلِ في فلسطين. فهم يُعَرّفون الناسَ بِأصول الوطن التي حملوها معهم. تستوي في ذلك الأجيالُ المختلفة. فاللاجئ الذي وُلِدَ في المنفى لأبٍ وُلِدَ مثلَه فيه، لم يغيّرْ عُنوانَ دارِه ودارِ آبائِهِ الأولى، حتى وإن أُزيلت عن الوجود. وهو الآنَ أكثرُ امتلاءً بهويتهِ من جَدِّه الذي أُخرج منها. فمنذُ الخروجِ حتى هذه اللحظةِ تنامت رمزياتُ الوطن، وانتقلت من خلفيةِ الوعي إلى مُقدّمتهِ، ومن المُسَلَّمِ به إلى سؤال الوجود وشرطِه.
كيف يحدثُ هذا؟ كيف استطاع المُخَيَّمُ أن يحتفظَ باسمِه، بعد أن حلّ الإسمنتُ محلَّ الخيامِ القديمة، وعلى الرغم من الوَصْمَة التي أُلْحِقَتْ ظُلماً بالمُخيم وأبنائه؟ إنها مقاومةُ الوعي لتغيير الصفَة، فما دام المخيمُ مخيماً فهو عابرٌ مؤقتٌ في زمن عابر. وفي حيّزِ المخيم الضيّق، كانت الأجيالُ تتوالى وتتكاثرُ دون أن يتوسعَ المكان. فكان لا بدّ أن تتزاحَمَ الأجيالُ في الحيّز المكانيِّ المحدود نفسِه. وهذا التزاحُمُ الخانقُ على ما فيه من الشقاء، كان باطنُه الرحمةَ، فقد شكَّلَ الظرفَ البُنيويَّ الذي يسَّرَ عمليةَ التراسلِ الحميمي المباشرِ واليوميِّ بين ذاكرة الأجداد ووعيِ الحَفَدَة.
لا نغلو إذن ولا ندَّّعي ولا نكابرُ ولا نغرق في التَعِلاّت حين نقول: لقد خسر العدوُّ رِهانَهُ على تغييب الذاكرة معَ غياب الأجيال الأولى من اللاجئين. فمن يملكُ أن يُسقطَ حقَّهم في العودة في أي تسويةٍ سياسيةٍ محتملة، مهما يكنْ مدى المفارقَة المفروضةِ بين قيمة السلام وقيمة العدل، بين معنى الواقع ومعنى الحق، بين حدود الدولةِ وحدودِ الوطن؟!
وإذا كان العدوُّ يُصرُّ على أن حقَّ العودة يُبْطِنُ ردَّ النزاع من جديد إلى شعار "معركة الوجود"، وأنه يُضمِرُ تقويضَ شرطِه الوجودي الذي أعلن السلاحُ العربيُّ عجزَه عن تقويضه، وكنا نُصِرُّ في الطرف المقابل على أن العودةَ حق لا يمكن إسقاطُه، حتى مع القَبول بخيار التسوية، والاحتكام إلى "الشرعية الدوليّة"، دون شرعيةِ الحق والعدل، فإن ذلك يكشفُ عُمقَ الأزمة التي لا بدّ أن يواجهَها خيارُ التسوية. وإذ يدركُ العدوُّ أبعادَ هذه الأزمة، فقد لا يجدُ لنفسه مفرّاً منها إلاّ اصطناعَ الظروف التي تُسَوِّغُ له فَرْضَ حلٍّ منفردٍ يُريحُه من استحقاقات هذا السؤال.
ولكنَّ هذا الحلَّ المنفردَ بدوره، لا يضرُّ بنا أقلَّ مما يضرُّ به، إذ يُلزِمُه الانكفاءَ وراءَ جُدُرِهِ المُشَيَّدَةِ، فيَحولَ بينَه وبين اجتناءِ استحقاقات السلام في العُمقِ العربي.
اللاجئ إذن هو مِسمارُ الحق التاريخي في حائطِ الواقع الظرفي، وطيفُ الوطن الفلسطيني التاريخي الذي يستعصي على الانحشارِ في ثوبٍ أقلَّ منه!
وبعدُ..
سيقولُ المُخَلَّفون من الأعرابِ ودعاة الرِدّة وسماسرة الإمبراطورية: أيُّ نهوضٍ وأيُّ عربٍ وأيُّ حقٍ وأيُّ حُلُمٍ، وأيُّ معانٍ ورموزٍ وذاكرةٍ وهويّةٍ وتعريفاتٍ؟ وسوف يُحيلون ذلك كلَّه على مُعْجَمٍ ماضٍ يَصِمونَهُ بِغِوايَةِ الشعراء وأوهامِ الرومانسيّة الثوريّة. ويستدعون في المقابل مفرداتِ العَوْلَمَة والواقعيةِ والعقلانيّة، ثم يضعون الجلادَ والضحيّةَ على سويّةٍ أخلاقيةٍ واحدة، ويَجمعون في صِفَةِ التطرّف بين من يحلُم بالحق كلِّه، ومن يريد أن يصادرَ الحقَّ كلَّه!
وسوف ينتظرُ آخرونَ حتى تتعَوْلَمَ مقاوَمةُ العولمة، لتكتسبَ روايتُنا عن الحق الفلسطيني وكفاحُنا من أجلِهِ شرعيةً جديدةً تستندُ إلى مَرجِعٍ عالميّ، ونستردَّ معها مُعجمَ التحرر والتحرير والاستقلال والنهضة!
فليكن..
ولكننا لن ننسى، ولن نسامحَ.. ولن نُسقطَ من يدِنا وضميرِنا جَمْرَةَ الحُلُمِ الفلسطيني.. فلسطين في نهاية درب الآلام، أو هي القيامة!

المحفظة الفارغة



كثيرة هي الشعارات التي نسمعها ونقرأ عنها في هذا البلد الحبيب هذه الأيام. هيئات ومنظمات وعمارات ومكاتب وجوائز وحقوق إنسان وحيوان وشجر... كثيرة إلى أنه لو أحصيناها خلال السنوات الماضية لخرجنا بشعار لكل مواطن. كنت أتابعها ضاحكا في سري. كان من أولها إنترنت لكل مواطن.

في تلك الأيام كنا خارجين في رحلة إلى قرية مليح بجانب مادبا. قرية رائعة وباهرة الجمال إلا أنها تخلو من أي مقومات حضارية. كنا متجهين صعودا في الجبل ننظر إلى تلك الجنة التي لم تفسدها بعد آثار التقدم والعمران الوحشي. قضينا ليلة رائعة في مزرعة تعود ملكيتها إلى قريب أحد الأصدقاء. في اليوم التالي تماما جاء هذا الصديق من بعيد ضاحكا ونحن جالسون في كافيتيريا الجامعة ومعه صحيفة أخبار ليطلعنا على خبر مضحك جدا (الحكومة تفتتح مقهى انترنت مجاني لأبناء مليح). مقهى انترنت مرة واحدة!!! هم لا يجدون الخبز ليسكتوا جوعهم بعد، والتعليم عندهم غاية في التخلف و الانهيار. إذن فليأكلوا البسكويت وهم يتصفحون الانترنت!!!

أرجو من قارئ هذه السطور أن لا يسيء فهمي. أنا لست ضد التقدم، ولكني أعتقد بأن الحاجات الأساسية أولى. فإذا كانت "المساعدات" الدولية و "القروض" تصلنا لتنتهي في غير مصلحة الشعب، وأعني بذلك ما يتبقى منها بعد عمليات السمسرة والجمركة والاقتطاع، فإننا لا نريدها.

يقال أن رجل الكهف الأول لم يكن قادرا على صيد الحيوانات الضخمة كالماموث وغيرها بأدواته البسيطة، فكان يرسمها على جدران كهفه ليقنع نفسه بأنه امتلكها فيشعر بالسعادة. نحن لم نعد سكان كهوف صغيرة منعزلة، ولم تعد أدواتنا بسيطة. نحن نعيش في عالم الفضائيات والانترنت المفتوح، فكفوا عن الرسم فلن تجدوا جدرانا ترسموا عليها أصلا.

أخيرا، لا أدري لماذا يذكرني كل شعار جديد يصدر يقصة حصلت معي وأنا طفل صغير، تعلمت منها درسا كبيرا. فقد كنت أدخر مصروفي اليومي المحدود لأشتري محفظة جلدية كالكبار لأباهي بها أقراني. حتى إذا انتهيت من ادخار ثمنها ذهبت وبكل سعادة إلى السوق واخترتمحفظة جلدية لامعة واشتريتها بكل ما ادخرته من نقود. أحسست حينها بأني امتلكت العالم، وبأني صرت في مصاف الكبار. وبعد أن مشيت عدة خطوات خارج المحل، أدركت الحقيقة المرة، وهي أني لا أملك ما أضعه داخل المحفظة!!!

08‏/04‏/2009

مقال لعبد الوهاب المسيري لم ينشر: عندما تتحول الصهيونية إلى نكتة (منقول)


الصهيونية في جوهرها هي حركة لتخليص أوروبا من الفائض البشري اليهودي (Jewish surplus ) عن طريق نقله من أوروبا وتوطينه في أية منطقة خارجها، وقد استقر الرأي على أن تكون فلسطين هي هذه المنطقة نظراً لأهميتها الإستراتيجية، وارتباطها في الوجدان الغربي باليهود.
وحتى يتم تجنيد الجماهير اليهودية وتسهيل عملية نقلهم، خدعهم الغرب بقوله إنهم سيذهبون إلى أرض بلا شعب، وإنه إن وُجد فيها شعب سيكون من السهل إبادته أو نقله أو استعباده كما حدث في التجارب الاستيطانية الإحلالية الأخرى.
وبالفعل فُتحت أبواب فلسطين للهجرة الاستيطانية اليهودية التي كانت تحميها قوة الاحتلال البريطانية. وتم إعلان الدولة الصهيونية العام 1948، وتصور المستوطنون أنهم كسبوا المعركة ضد السكان الأصليين. ولكن بعد بضع سنوات قليلة من الهدوء بدأت المقاومة الفلسطينية النبيلة بشكل فردي ثم ظهرت فصائل المقاومة الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى، وراحت تطور من قدراتها تدريجياً إلى أن وصلت إلى إنتاج الصواريخ وتحسين أدائها.
ومن الطريف أنه نظراً لبساطة هذه الصواريخ وبدائيتها، فإن الرادارات الإسرائيلية غير قادرة على رصدها، ولذا ظهرت نكتة في إسرائيل تقول إنه لابد وأن تزود إسرائيل المقاومة الفلسطينية بصواريخ سكود حتى يمكن للرادارات الإسرائيلية أن ترصدها.
وتدريجياً بدأ الإسرائيليون يشعرون أن انتصاراتهم العسكرية لا معنى لها، وأنها لم تنجح في تحقيق السلام أو الأمن لهم (فيما سماه المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون "عقم الانتصار" مقتبساً عبارة هيجل) وأنهم خُدعوا عندما صُوِّر لهم أن عملية الاستيطان في فلسطين سهلة، وتدريجياً تنامى إحساس بالورطة التاريخية.
ولكن ماذا يمكن لهم أن يفعلوا؟ أحد الحلول هو تجاهل الورطة تماماً، وهذا ما تعبر عنه أحداث هذه القصيدة الفكاهية التي كتبها الشاعر الإسرائيلي إفرايم سيدون إبان الانتفاضة الأولى (والتي رفض التلفزيون الإسرائيلي إذاعتها).
تدور أحداث القصيدة في غرفة صالون يجلس فيه أربعة أشخاص: الأب والأم والطفل، أما رابعهم فهو الجندي الصهيوني، وبالتالي فهي خلية استيطانية سكانية مسلحة. وقد اندلع خارج المنزل حريق (رمز الانتفاضة وظهور الشعب الفلسطيني) وبدأ الدخان يدخل البيت عبر النافذة، إلا أن الأربعة يجلسون بهدوء ويشاهدون مسلسلاً تلفزيونياً ولا يكترثون بشيء. ثم ينشد الجميع:
هنا نحن جميعاً نجلسفي بيتنا الصغير الهادئ نجلس في ارتياح جذل هذا أفضل لنا، حقاً إنه أفضل لنا - الأم: جيد هو وضعنا العام- الجندي: أو باختصار.. إيجابي...- الأب: وإذا كانت هنا جمرة تهدد بالحريق - الأم: طفلي سينهض لإطفاء الحريق - الأب: وإذا اندلعت هنا وهناك حرائق صغيرة - الأم: سيسرع ابني لإطفائها بالهراوة - الأب: انهض يا بني اضربها قليلاً
ويخاطب الأب النار فيخبرها أنها مسكينة، وأنها لن تؤثِّر فيه من قريب أو بعيد، وأنه سيطفئها في النهاية. وحينما تأكل النيران قدميه لا تضطرب الأم، فالأمر في تصورها ليس خطيراً، إذ لديه -كما تقول- "قدم صناعية" (لعلها مستوردة من الولايات المتحدة)، والوقت -كما يقول الأب- "يعمل لصالحنا". ولكن الطفل ينطق مرة أخرى بالحقيقة المرة:
- الطفل: بابا، بابا، لقد حرقنا الوقت [الزمن] - الأب: اسكت - الأم: إن من ينظر حولنا ويراقب، يرى كم أن الأب لا ينطق إلا بالصدق كعادته - الأب والأم: لقد أثبتنا للنار بشكل واضح من هو الرجل هنا ومن هو الحاكم - الطفل: ولكن بابا... البيت... - الأب: لا تشغلنا بالحقائق
وهذه القصيدة الفكاهية، شأنها شأن النكت، تخبئ رؤية متشائمة بشأن مستقبل المستوطنين الصهاينة الذين يستقرون في المكان وينكرون الزمان، فتحرقهم الحقيقة وهم جالسون يراقبون مسلسلاً تلفزيونياً في هدوء وسكينة، أو يستمعون إلى الدعاية الصهيونية التي تنسيهم واقعهم في رضا كامل!
ويتضح هذا الإحساس بالعبثية وفقدان الاتجاه عند الإسرائيليين في ظهور موضوع "الخوف من الإنجاب" في القصص الإسرائيلية. فمن المعروف أن الدولة الصهيونية تشجع النسل بشكل مهووس لا حباً في الإخصاب والأطفال، وإنما وسيلة لتثبيت أركان الاستعمار الاستيطاني.
ولكن من المعروف أيضاً أن معدل الإنجاب في إسرائيل من أقل المعدلات في العالم، حتى أنهم فكروا في أن يعلنوا للإنجاب عاماً يركز فيه الإسرائيليون لإنجاب أطفال أكثر. وكان رد الإسرائيليين، كما هو متوقع، سريعاً وحاسماً وملهاوياً، إذ قال أحد أعضاء الكنيست إن على رئيس الوزراء أن يعود إلى منزله فوراً للقيام بواجبه الوطني مع زوجته.
وهو بالمناسبة واجب وطني بالفعل، فكما يقول أستاذ الجغرافيا الإسرائيلي أرنون سوفير إن "السيادة على أرض إسرائيل لن تُحسَم بالبندقية أو القنبلة اليدوية بل ستُحسَم من خلال ساحتين: غرفة النوم والجامعات، وسيتفوق الفلسطينيون علينا في هاتين الساحتين خلال فترة غير طويلة".
ومن هنا الإشارة إلى المرأة الفلسطينية النفوض، التي تنجب العديد من الأطفال، بأنها "قنبلة بيولوجية". وتعود ظاهرة العزوف عن الإنجاب إلى عدة أسباب عامة (تركُّز الإسرائيليين في المدن-علمنة المجتمع الإسرائيلي-التوجه نحو اللذة... إلخ). لكن لا يمكن إنكار أن عدم الإنجاب إنما هو انعكاس لوضع خاص داخل المجتمع الإسرائيلي وتعبير عن قلق الإسرائيليين من وضعهم الشاذ، باعتبارهم دولة مغروسة بالقوة في المنطقة، مهددة دائماً بما يسمونه المشكلة الديموغرافية، أي تزايد عدد العرب وتراجع عدد المستوطنين اليهود.
ويعبر الإحساس العميق بالورطة التاريخية التي وجد الإسرائيليون أنفسهم فيها بهذه النكتة التي أطلقها أحد المسؤولين الصهاينة إبان احتفالات الذكرى الأربعين لتأسيس إسرائيل، إذ قال إن المشروع الصهيوني كله يستند إلى سوء فهم وخطأ، إذ كان من المفروض أن يتم في كندا بدلاً من فلسطين.
ويرجع هذا إلى تعثُّر لسان موسى التوراتي، فحينما سأله الإله أي بلد تريد؟ كان من المفروض أن يقول "كندا" على التو ولكنه تلعثم وقال "كاكاكا- نانانا" فأعطاه الإله "أرض كنعان" (أي فلسطين) بدلاً من كندا، فهاج عليه بنو إسرائيل وماجوا وقالوا له "كان بوسعك أن تحصل على كندا بدلاً من هذا المكان البائس الخرب، هذا الوباء الشرق أوسطي الذي تحيط به الرمال والعرب". والنكتة هنا تعبِّر عن إحساس عميق بالخوف من تزايد العرب وتصاعد المقاومة وبالطريق المسدود الذي يؤدي إلى العدمية الكاملة.
وتتسم المجتمعات التي يُقال لها متقدمة بتصاعد معدلات الاستهلاك، خاصة وأن هذه المعدلات أصبحت واحدة من أهم مؤشرات التقدم. والمجتمع الإسرائيلي يقال له "متقدم" ولذا نجد أن معدلات الاستهلاك فيه عالية. ولكن المشكلة أنه أيضاً مجتمع استيطاني. والتوجه الاستهلاكي يقوض من مقدرته القتالية، لأن هذا التوجه يصاحبه توجه شديد نحو اللذة وانصراف عن المثل الأيديولوجية الاستيطانية التي تتطلب الانضباط والاستعداد العسكري والمقدرة على إرجاء الإشباع.
وقد كان المجتمع الصهيوني يتسم بهذه السمات. ولكن بعد حرب 1967 انفتحت بوابة الاستهلاكية، وهي تتزايد يوماً بعد يوم، وبدلاً من المستوطن القديم الذي كان يحمل المحراث بيد، والمدفع الرشاش باليد الأخرى، ظهر ما يطلق عليه "روش قطان" وهو الإنسان ذو المعدة الكبيرة والرأس (روش) الصغيرة (قطان) الذي لا يفكر إلا في مصلحته ومتعته واحتياجاته الشخصية، وينصرف تماماً عن خدمة الوطن أو حتى التفكير فيه.
إنه إنسان استهلاكي مادي لا يؤجل متعة اليوم إلى الغد، غير قادر على إرجاء الإشباع، فهو غير واثق تماماً من الغد، فاليوم خمر بلا شك، ولكن الغد مظلم تماماً، فينغمس في الاستهلاك، خاصة وأنه ينسيه أزمة المعنى وفقدان الاتجاه.
ولذا يقال إن سياسة الدولة الصهيونية -حسب إحدى النكات الإسرائيلية- هي تزويد جماهيرها بال T. V. C. وهي الأحرف الأولى لـ Video, and Cars وT.V. أما الشباب فيُشار له باعتباره جيل الـM T V وهي محطة الفيديو كليبات الشهيرة التي تركز على الرقص والغناء والجسد ولا تذكر العالم الخارجي من قريب أو بعيد.
كما يُشار إليه باعتباره جيل الإكسبريسو، أي الشباب الذين يجلسون على المقاهي فيشربون قهوة الإكسبريسو ولا يشغلون بالهم بالوطن القومي اليهودي ومعاركه المستمرة المختلفة. وحسب الحلم الصهيوني كان من المفروض أن تصبح إسرائيل نوراً للأمم (ذات فولت عال جداً) ولكنها أصبحت -حسب قول أحد الصحفيين الإسرائيليين- مجتمع الثلاثة ف (V): الفولفو والفيديو والفيلا.
وأشار أحد الصحفيين الإسرائيليين إلى أن الإسرائيليين يعملون مثل شعوب أميركا اللاتينية (أي لا يعملون) ويعيشون مثل شعوب أميركا الشمالية (أي يتمتعون بمستوى معيشي عال) ويدفعون الضرائب مثل الإيطاليين (أي يتهربون منها) ويقودون السيارات مثل المصريين (أي بجنون).
وقد أشار المعلق العسكري الإسرائيلي زئيف شيف إلى الاستيطان في الضفة الغربية بأنه "استيطان دي لوكس" فالمستوطنون هناك استهلاكيون وليسوا مقاتلين، يتأكدون من حجم حمام السباحة ومساحة الفيلا قبل الانتقال إلى المستوطنة.
ولذلك تشير الصحف الإسرائيلية إلى هذا الاستيطان باعتباره "الصنبور الذي لا يُغلَق أبداً" بل إنهم يشيرون إلى "محترفي الاستيطان" (بالإنجليزية: ستلمنت بروفشنالز settlement professionals) وهم المستوطنون الذين يستوطنون في الضفة الغربية انتظاراً للوقت الذي تنسحب فيه القوات الإسرائيلية ليحصلوا على التعويضات المناسبة (كما حدث في مستوطنة ياميت في شبه جزيرة سيناء).
كما يشير الإسرائيليون إلى الاستيطان المكوكي (بالإنجليزية: شاتل ستلمنت shuttle settlement) وهي إشارة للمستوطنين الذين يستوطنون في الضفة الغربية بسبب رخص أسعار المساكن وحسب، ولكنهم يعملون خلف الخط الأخضر وهو ما حوَّل المستوطنات إلى منامات يقضي فيها المستوطنون سحابة ليلهم، أي أنهم ينتقلون كالمكوك بين المستوطنات التي يعيشون فيها بالضفة الغربية ومكاتبهم التي يعملون فيها بالمدن الإسرائيلية وراء الخط الأخضر.
ومن حق أي شعب أن يستهلك بالقدر الذي يريد ما دام يكد ويتعب وينتج ثم ينفق، ولكن الوضع ليس كذلك في إسرائيل، فهم يعرفون أن الدولة الصهيونية "المستقلة" لا يمكن أن توفر لنفسها البقاء والاستمرار ولا أن توفر لهم هذا المستوى المعيشي المرتفع إلا من خلال الدعم الاقتصادي والسياسي والعسكري الأميركي المستمر، ما دامت تقوم بدور المدافع عن المصالح الأميركية، أي أن الدولة الصهيونية دولة وظيفية، تُعرَّف في ضوء الوظيفة الموكلة لها.
وقد وصف أحد الصحفيين الإسرائيليين الدولة الصهيونية بأنها "كلب حراسة، رأسه في واشنطن وذيله في القدس" وهو وصف طريف ودقيق، وصريح وقاس.
ولكن هناك دائماً الإحساس بالنكتة. فعندما طرح أحد وزراء المالية خطة "دولرة" الشيكل أي ربطه بالدولار (وهي خطة رُفضت نظرياً في حينها وإن كانت نُفِّذت عملياً) اقترحت عضوة الكنيست جيئولا كوهين أن توضع صورة أبراهام لنكولن على العملة الإسرائيلية جنباً إلى جنب مع صور زعماء إسرائيل ونجمة داود، وأن يُدرَّس التاريخ الأميركي للطلاب اليهود بدلاً مما يسمى "التاريخ اليهودي".
وأوردت صحيفة "جيروزاليم بوست" الحوار الخيالي التالي بين وزير المالية وشخص آخر: الوزير: الخطوة الأولى هي أن نُخفِّض الميزانية، أما الثانية فهي تحطيم الشيكل واستخدام الدولار. الآخر: وما الخطوة الثالثة؟ الوزير: الأمر واضح جداً، ننتقل كلنا إلى بروكلين (أحد أحياء اليهود في نيويورك).
لكل ما تقدم، يشعر الإسرائيليون أن الصهيونية لم تعد هي الخريطة التي تهديهم سواء السبيل، ففلسطين التي كان يُشار إليها بأنها "أرض بلا شعب" ظهر أنها فيها شعب، وأنه يقاوم المحتلين بلا هوادة، ولا يكل ولا يتعب من المقاومة.
وقد لاحظ أحد الكُتَّاب الإسرائيليين أنه لا يوجد فارق كبير بين الصيغتين "صهيوني" (بالعبرية: تسيوني tzioni) و"غير المكترث" (بالعبرية: تسيني tzini) والفارق الوحيد بينهما في الإنجليزية هو حرف (o) أي زيرو. فالصهيونية، هذه الأيديولوجية المشيحانية التي تدَّعي أنها القومية اليهودية، والتي تتطلب الحد الأقصى من الحماس والالتزام، فَقَدت دلالتها وأصبحت شيئاً لا يكترث به اليهود أعضاء هذه القومية المزعومة الذين تحاول الصهيونية "تحريرهم" من أسرهم في "المنفى"!
ويشير أحد الكُتَّاب الفكاهيين في إسرائيل إلى أن كلمتي "زايونيزم Zionism" الصهيونية و"زومبي Zombie" (وهو الميت الذي تُعاد له الحياة بعد أن تدخل جسده قوة خارقة، ولذا يمكنه الحركة ولكنه لا يستعيد القدرة على الكلام أو حرية الإرادة) تردان في نفس الصفحة من المعجم الإنجليزي، الأمر الذي يدل -حسب تصوُّره- على ترابطهما، وأن الصهيونية إن هي إلا زومبي، أي جسد متحرِّك لا حياة فيه ولا معنى له.
وهذا الكاتب الكوميدي لم يجانب الحقيقة كثيراً، فهناك العديد من المستوطنات الفارغة، تنعى من بناها، لا يسكن فيها أحد، ويُطلَق عليها بالإنجليزية: دمي ستلمنت dummy settlement. وقد آثرنا ترجمتها بعبارة "مستوطنات الأشباح" أو "مستوطنات زومبي" فهي جسد قائم لا حياة فيه.
ونظراً لكل هذه التطورات أصبحت كلمة "صهيونية" (تسيونوت بالعبرية) تعني "كلام مدع أحمق" (صحيفة جيروزاليم بوست، 26 أبريل/ نيسان 1985) وتحمل أيضاً معنى "التباهي بالوطنية بشكل علني مُبالَغ فيه" وتدل على الاتصاف بالسذاجة الشديدة في حقل السياسة (صحيفة إيكونوميست، 21 يوليو/ تموز 1984وكتاب برنارد أفيشاي مأساة الصهيونية، ص 26).
ومن الواضح أن حقل الكلمة الدلالي أو منظورها يشير إلى مجموعتين من البشر: صهاينة الخارج، أي الصهاينة التوطينيون الذين يحضرون إلى إسرائيل ويحبون أن يسمعوا الخطب التي لا علاقة لها بالواقع، ولذا فهي ساذجة، مليئة بالادعاءات الحمقاء والتباهي العلني بالوطنية.
وتشير في الوقت نفسه إلى الصهاينة الاستيطانيين الذين يعرفون أن الخطب التي عليهم إلقاؤها إن هي إلا خطب جوفاء ومبالغات لفظية لا معنى لها، ولكن عليهم إلقاءها على أية حال حتى يجزل لهم الضيوف العطاء.
والمقصود الآن بعبارة مثل "اعطه صهيونية" هو "فلتتفوه بكلام ضخم أجوف لا يحمل أي معنى" فهو صوت بلا معنى، وجسد بلا روح، ودال بدون مدلول، أو كما نقول بالعامية المصرية "هجّص" فالمسألة "هجص في هجص". ويمكن أن نضيف لزيادة الدلالة "والأرزاق على الله" أو فلنُعلمن العبارة ونقول "والأرزاق على الولايات المتحدة ويهود الدياسبورا"!! والله أعلم.

01‏/04‏/2009

أشباح


كانت مخيلتي خصبة جداً وكنت صغيراً. كنت أيضاً أعاني من قصر النظر، وهذه على ما يبدو لعنة أصيبت بها العائلة أباً عن جد لسبب ما لا أعلمه، ولكني أظن أن لها علاقة بعمل سيء اقترفه أحد أجدادي السابقين، والله أعلم. وليس هذا موضع مناسب للحديث عن لعنات العائلة لسببين: أولهما عدم اتساع المجال في هذه المدونة لكثرتها، وثانيهما أني لا أريد أن أقطع بنصيب بنات وشباب العائلة العزاب.

على أي حال، كنت أرفض إخبار أهلي بمشكلتي هذه، أعني قصر النظر. وفي الليل كانت الخيالات الناتجة عن سقوط ضوء النواسة على موجودات الغرفة تشكل مادة صلصالية، تعمل فيها يدا مخيلتي الماهرة مستعينة بعدم قدرتي على تمييز الأشكال بدقة، لتصنع منها أشباحاً ووجوهاً مرعبة. كنت أحاول المقاومة، وكنت أغمض عيني لعلها تختفي لأفتحهما فأجدها أكثر رعباً ووحشية. ما العمل يا ربي؟ أخاف أن أنام فتبدأ بالاقتراب مني لتهاجمني.

في آخر المطاف كنت دائماً أصرخ باكياً مستغيثاً بأبي ليأتي ويرقد جانبي. يتكلم معي ويحكي لي القصص حتى أنام. وفي الصباح كنت أستيقظ كأن شيئاً لم يكن، فقد قالت العرب سابقاً (كلام الليل يمحوه النهار)، وأعود أنا (سبع البرمبة) الشجاع.

تكررت هذه القصة ليالٍ كثيرة، بحيث أني أجد نفسي وأنا أكتب هذه الكلمات الآن خجلاً جداً من أبي الذي كان يعمل لساعات طويلة في النهار وهو محتاج بشدة للنوم في الليل. وأجد نفسي أيضاً خائفاً بأن يرزقني الله بطفلٍ من شاكلتي ينغص علي نومي، فالدنيا كما تعلمون (سلف ودين).

وفي يوم من الأيام خطرت ببالي فكرة جهنمية. كنت قد اشتريت في أحد الأعياد من عيدياتي مسدساً صغيراً لعبةً على شكل ميدالية. وبما أن المثل يقول (لا يفل الحديد إلا الحديد)، قلت لنفسي بدوري (لا يفل الخيال إلا الخيال). في ذلك اليوم وضعت المسدس تحت الوسادة، حتى إذا أتى الليل وبدأت الأشباح بالظهور كنت أخرج المسدس وأبدأ بقنصها حتى تموت، فأغط بسابع نومة مطمئن البال قرير العين. استمرت الحال هكذا إلى أن ماتت جميع الأشباح شيئاً فشيئاً، وأصبحت جدران الحجرة مقابر جماعية لها. ويا دار ما دخلك شر.

الغريب العجيب في الموضوع أن أبي لم يتعجب من التطور السريع، بل أنه بدأ يفاخر بابنه ويقول لأمي أني بدأت أكبر وأعقل، ونسي أو بالأحرى تناسى في هذا الموقف مقولته الدائمة (الولد ولد ولو عمر بلد). وأنا لم أخبر إلا عدداً قليلاً من الناس عن هذه القصة الغريبة سابقاً، ولا أعرف لماذا أسردها على حضراتكم الآن! إلا أن لي عندكم رجاء، أن تخفوها عن أبي ليبقي فخوراً بي.

ذهبت أيام وأتت أيام، ذهب معها قصر البصر (استعانة بنظارة) وأتى قصر البصيرة، وبقيت المخيلة على حالها. وتبدل نور النواسة بنور الحقيقة اليومية المعاشة، والظلمة بظلمات نعيشها طوال اليوم في فلسطين والعراق وفي أقطارنا المتفككة من المحيط إلى الخليج. وأصبحت الأشباح أكثر حقيقية ووحشية وأكثر انتشاراً من جدران حدود البيت، وأكبر من أن أميتها بذلك المسدس الصغير الذي ضاع ولم أستطع العثور عليه إلى اليوم.