30‏/03‏/2009

تشخيص بقلم الكاتب الكبير نيكوس كازانتزاكيس

كان مصدر ألمي الاساسي ومنبع كل افراحي واحزاني بدءا من طفولتي فصاعدا صراعاً متواصلاً لا يعرف الرحمة بين الروح والجسد.... في داخلي تكمن القوى المطلقة السحيقة للجانب الشرير الانساني وما قبل الانساني.. وكانت روحي ساحة تصادم عليها هذان الجيشان وتقاتلا

29‏/03‏/2009

تحولات

كان صيفاً قائظاً، وانعكاس أشعة الشمس تكاد تعمي الأبصار. رمال الصحراء والغبار على مد البصر، فضلاً عن الرطوبة التي لا تحتمل. لا ماء ولا خضراء ولا وجه حسن. ولا حتى ضحكة طفولية تحد من خشونة هذا الجو الرجولي. لا يعرف المرء أهمية عناصر اتزان الكون هذه حتى يفقدها. هذه الأجواء هي التي تعمل بها الشركة غالباً، خصوصاً في مشاريع المقاولات الخاصة بآبار الغاز والنفط الخليجية. أعداد كبيرة من المهندسين والمقاولين والموظفين والعمال في سكن أشبه ما يكون بالمعتقل في صحارى نائية، سكن مكون من صفوف متوازية من الكارافانات المحاطة بسياج، وكأنها في نهاية العالم.
في مثل هذه الظروف عشت أنا شهراً فقط، وعاش أبو جورج سنين طويلة. تشهد على ذلك بشرته التي صبغتها الشمس بلون شديد السمرة، وملامحه التي تأثرت بحياة الصحاري، حتى لم يعد بالإمكان التنبؤ بأصله المدني المنتمي إلى إحدى عائلات القدس العريقة إلا من لهجته المميزة.
وأبو جورج أفنى حياته في هذه الشركة كما أشرت سابقاً. بدأ فيها مقاولاً صغيراً بعد أن خرج من القدس إلى الكويت إثر نكسة عام 1967، وبقي معها تكبر ويكبر حتى أصبحت من أكبر شركات المقاولات العالمية، وهو من أكبر موظفيها عمراً. هو فخور جداً، بل وحريص على إعلام الجميع في أي جلسة مسائية عن علاقته (الوطيدة) بمالكي الشركة. حيث يدعي أنه كان أحد المتواجدين الدائمين على موائدهم وفي حفلاتهم، ويروي كيف رافقهم في أسفارهم. هذا يتناقض طبعا مع رتبته المتواضعة نسبياً في هذه الشركة العملاقة، إلا أن الجميع يدعونه يتحدث كما يشاء دون أن يقاطعوه إما احتراماً لسنه وإما خوفاً من موجة غضب قد تنتابه ككثير من اللواتي انتبنه أثناء وجبات الطعام فرمى الصينية بما عليها على الأرض، فتناثر الزجاج ممتزجاً مع الطعام على أرض الصالة.
تعرفت عليه في إحدى السهرات في نادي السكن. كنت حريصاً على ذلك يدفعني الفضول لمعرفة هذا الإنسان ذو الطباع الغريبة. كان في هذه السهرة، كما في كل جلساته، متقمصا ًشخصية القائد ومسيطراً على الحوار. كنت أستمع إليه بل وأجاريه في كلامه حتى كسبت وده، فأصبح يلقي السلام علي عندما يراني، وجلسنا على مائدة الطعام معاً مرات عدة، رغم أنه لا يحب الاختلاط بمن هم في مثل سني من الشباب.
حين عرفته وبعد أن روى لي قصة حياته أحسست بالرثاء لحاله. هذا رجل مسكين لم ير في عمره الكثير من الأيام الجميلة. زوجته لا تعرف من زوجها الغريب إلا تحويلات الرواتب الشهرية و ذلك الرجل الذي يأتي لمدة أسبوعين ثلاث أو أربع مرات في السنة. بل إن له عدداً من الأولاد والأحفاد الذين لا يكاد يعرفهم. فهو لم يكن حاضراً عند ولادة معظمهم، ولم يكن موجوداً عندما نطق فلان كلمة (بابا) لأول مرة أو خطا أول خطوة. حتى بيته الكبير الذي أنشأه في عمان منذ سنوات لم يتح له العيش فيه.
في الجمعة الثالثة من مجيئي للشركة، وكان يوم الجمعة هو يوم الاستراحة الوحيد، استيقظت واغتسلت وارتديت ثياناً أنيقة وتعطرت استعداداً لقضاء يوم الإجازة في المدينة كما فعلت في الجمعتين السابقتين. ذهبت بعدها إلى صالة الطعام لتناول الإفطار، ثم إلى الصلاة، وبعد ذلك إلى غرفة التلفاز إلى حين موعد انطلاق الحافلة.
كان في الغرفة مجموعة من اللبنانيين يتابعون الأخبار والمقابلات على الفضائيات اللبنانية، حيث كانت لبنان قاب قوسين أو أدنى من اشتعال حرب أهلية جديدة في ذلك الصيف. وبينما هم كذلك دخل أبو جورج وتناول الريموت كونترول وغير القناة إلى الجزيرة التي كانت تعرض فيلم (فهرنهايت 9/11) لأول مرة. طلب منه أحدهم أن يعيد القناة فصرخ عليه فاستاء الشباب وخرجوا متمتمين بالشتائم. التفت إلي قائلا: (يا زلمة زهأوناحياتنا هاللبنانيين، كأنو مافي غيرهم بهالشركة، إي مو الحأ عليهم، الحأ علي بوظفهم). أشحت عنه بوجهي متصنعاً الابتسام.
وبينما نحن نتابع الفيلم، دخل إلى الغرفة ثلاث شباب مصريين. طلبو منه بكل أدب أن يحول القناة إلى قناة أفلام ستعرض فيلماً جديداً للممثل أحمد حلمي، فرفض وقال :(مو شايفينا عم بنتابع هالفيلم؟! أما جيل سخيف بس بدكو أفلام وأغاني). وعندما وصل الفيلم إلى نقطة مثيرة وشد انتباهنا قام أبو جورج وبكل برود أعصاب بتغيير القناة. في هذه الحظة لم يطق الشباب الموقف وخرجوا من الغرفة. نظر إلي أبو جورج نظرة المنتصر وقال مبتسماً: (شايف كيف خليتهم يطلعوا، أما شباب هايفين، هدول بدهم يحرروا القدس؟! أما جيل والله!).
في هذه اللحظة لم أستطع الاستمرار في مجاراته، فوقفت عازماً على الخروج وليذهب أبو جورج وتلفازه بقنواته إلى الجحيم وإذا به ينظر إلي متعجباً: (لوين عمي؟!) قلت له: (خلص مو مشكلة عمي بدي أروح). فرد علي بلهجة أخرى لم أسمعه يتكلم بها سابقاً: (خليك عمي عندي). رددت عليه كاذباً بأني أحتاج الذهاب لغرفتي قبل موعد الحافلة. فقال بلهجة يملؤها الرجاء: (ما تزعل مني عمي، خلص خليك هون معي و خد الريموت، حط على القناة اللي بدك إياها، بس ما تتركني لحالي، مشان الله عمي والله زهآن كتير).
عندها أحسست بحزن شديد وعاطفة قوية نحوه، فرجعت إلى مقعدي وجلسنا نتحدث ونتحدث حتى ذهب موعد الحافلة، وقضيت اليوم إلى المساء معه. وعندما رجعت إلى غرفتي جافاني النوم في تلك الليلة، فقد كنت نويت الذهاب إلى الإدارة صبيحة اليوم التالي لأكتب استقالتي.

تجارب فاشلة

تجارب فاشلة... ملأى بها الحياة، بعضها عاطفية أو نفسية أو عملية حتى. لا يظن الكثير ممن خالطوني أني مررت بها. فهي بمعظمها تجارب شخصية جداً، وأنا ناجح بلعب دور القوي الناجح دوماً أمام الكثيرين، فمن الصعب تمييز حقيبة ممتلئة بأوان زجاجية سليمة عن أخرى ممتلئة بأوان مهشمة إذا كانت محكمة الإغلاق. هذه التجارب بما صاحبته من آلام تبعت آمال، قد ساهمت فيما نفسي عليه الآن من قبح وجمال. ولا عجب من هذه الازدواجية، فالألم يصحب الفناء والموت كما يصحب الخلق والولادة.
إلا أنني عودت نفسي هذه بأن تصالح نفسها لأتمكن من المضي قدماً. فبعد الفشل أسقط في بئر الأحزان العميق، و أمتنع -وأحيانا لا أقوى- على المقاومة دهراً، بل أغذيه و أغذيه بماء يغرقني ليغسلني ويطهرني. أسمح لنفسي بالضياع في عتمة البئر والغرق بأحزانه لكنني لا ولن أسمح لها بالموت أو الإنكسار. وعندما تمس قدماي القاع، أدفع نفسي بكل ما أوتيت من قوة إلى السطح غير المرئي، لتبدأ الظلمة بالتبدد شيئاً فشيئاً حتى أعود إلى السطح، لأملأ رئتاي بهواء الحرية والأمل ثانية.
بهذا تكون النفس قد اغتسلت من أحزانها لتتيح الإندمال لجراحها، فالزمن كفيل بشفاء الجراح، كل حسب عمقه. وبعد حين، طال أو قصر، تشفى الجراح مخلفةً آثارها في النفس. وجراح النفس تشبه كثيراً جراح الجسد. تكون مؤلمةً في البداية، تنزف وتلتهب فتحاول تجنبها. ولكن بعد التئامها تمرر رؤوس أصابعك عليها وتداعبها لتشعربقشعريرة لذيذة ومتعة تخترق العظام ، لتعيد معها الذكريات الحميمة التي كانت يوماً ما تجارب فاشلة.

25‏/03‏/2009

الجنوبي بقلم أمل دنقل

صورة
هل أنا كنت طفلاً
أم أن الذي كان طفلاً سواي
هذه الصورة العائلية
كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجاً، وعلَّمت القلب أن يحترس
أتذكر
سال دمي
أتذكر
مات أبي نازفاً
أتذكر
هذا الطريق إلى قبره
أتذكر
أختي الصغيرة ذات الربيعين
لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها
المنطمس
أو كان الصبي الصغير أنا ؟
أم ترى كان غيري ؟
أحدق
لكن تلك الملامح ذات العذوبة
لا تنتمي الآن لي
و العيون التي تترقرق بالطيبة
الآن لا تنتمي لي
صرتُ عني غريباً
ولم يتبق من السنوات الغريبة
الا صدى اسمي
وأسماء من أتذكرهم -فجأة-
بين أعمدة النعي
أولئك الغامضون : رفاق صباي
يقبلون من الصمت وجها فوجها فيجتمع الشمل كل صباح
لكي نأتنس.
وجه
كان يسكن قلبي
وأسكن غرفته
نتقاسم نصف السرير
ونصف الرغيف
ونصف اللفافة
والكتب المستعارة
هجرته حبيبته في الصباح فمزق شريانه في المساء
ولكنه يعد يومين مزق صورتها
واندهش.
خاض حربين بين جنود المظلات
لم ينخدش
واستراح من الحرب
عاد ليسكن بيتاً جديداً
ويكسب قوتاً جديدا
يدخن علبة تبغ بكاملها
ويجادل أصحابه حول أبخرة الشاي
لكنه لا يطيل الزيارة
عندما احتقنت لوزتاه، استشار الطبيب
وفي غرفة العمليات
لم يصطحب أحداً غير خف
وأنبوبة لقياس الحرارة.
فجأة مات !
لم يحتمل قلبه سريان المخدر
وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات
عاد كما كان طفلاً
سيشاركني في سريري
وفي كسرة الخبز، والتبغ
لكنه لا يشاركني .. في المرارة.
وجه
ومن أقاصي الجنوب أتى،
عاملاً للبناء
كان يصعد "سقالة" ويغني لهذا الفضاء
كنت أجلس خارج مقهى قريب
وبالأعين الشاردة
كنت أقرأ نصف الصحيفة
والنصف أخفي به وسخ المائدة
لم أجد غير عينين لا تبصران
وخيط الدماء.
وانحنيت عليه أجس يده
قال آخر : لا فائدة
صار نصف الصحيفة كل الغطاء
و أنا ... في العراء
وجه
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يمت
هل يموت الذي كان يحيا
كأن الحياة أبد
وكأن الشراب نفد
و كأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد
عاش منتصباً، بينما
ينحني القلب يبحث عما فقد.
ليت "أسماء"
تعرف أن أباها الذي
حفظ الحب والأصدقاء تصاويره
وهو يضحك
وهو يفكر
وهو يفتش عما يقيم الأود .
ليت "أسماء" تعرف أن البنات الجميلات
خبأنه بين أوراقهن
وعلمنه أن يسير
ولا يلتقي بأحد .
مرآة
-هل تريد قليلاً من البحر ؟
-إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي
البحر و المرأة الكاذبة.
-سوف آتيك بالرمل منه
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً
فلم أستبنه.
.
.
-هل تريد قليلاً من الخمر؟
-إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين :
قنينة الخمر و الآلة الحاسبة.
-سوف آتيك بالثلج منه
وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً
فلم أستبنه
.
.
بعدما لم أجد صاحبي
لم يعد واحد منهما لي بشيئ
-هل نريد قليلاً من الصبر ؟
-لا ..
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة و الأوجه الغائبة.

كلمات سبارتكوس الأخيرة بقلم أمل دنقل (وحذف بعض المقاطع)

معلّق أنا على مشانق الصباح
و جبهتي – بالموت – محنيّة
لأنّني لم أحنها .. حيّه !
... ...
يا اخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الاسكندر الأكبر :
لا تخجلوا ..و لترفعوا عيونكم إليّ
لأنّكم معلقون جانبي .. على مشانق القيصر
فلترفعوا عيونكم إليّ
لربّما .. إذا التقت عيونكم بالموت في عينيّ
يبتسم الفناء داخلي .. لأنّكم رفعتم رأسكم .. مرّه !
" سيزيف " لم تعد على أكتافه الصّخره
يحملها الذين يولدون في مخادع الرّقيق
و البحر .. كالصحراء .. لا يروى العطش
لأنّ من يقول " لا " لا يرتوي إلاّ من الدموع !
.. فلترفعوا عيونكم للثائر المشنوق
فسوف تنتهون مثله .. غدا
و قبّلوا زوجاتكم .. هنا .. على قارعة الطريق
فسوف تنتهون ها هنا .. غدا
فالانحناء مرّ ..
و العنكبوت فوق أعناق الرجال ينسج الردى
فقبّلوا زوجاتكم .. إنّي تركت زوجتي بلا وداع
و إن رأيتم طفلي الذي تركته على ذراعها بلا ذراع
فعلّموه الانحناء !
علّموه الانحناء !

الودعاء الطيّبون ..
هم الذين يرثون الأرض في نهاية المدى
لأنّهم .. لا يشنقون !
فعلّموه الانحناء ..
و ليس ثمّ من مفر
لا تحلموا بعالم سعيد
فخلف كلّ قيصر يموت : قيصر جديد !
وخلف كلّ ثائر يموت : أحزان بلا جدوى ..
و دمعة سدى !