27‏/11‏/2009

انتصار زائف

أغلق باب السيارة بعنف. استعاد تقييم الموقف في الدقائق الأخيرة كما تعود أن يفعل كلما ارتكب عملاً جريئاً مما أصبح يصنفها "حماقات". أتى عبدو إلى غرفة المعلمين ووقف أمامه وهو يصلي. فقد خشوعه وهو يفكر "يا ساتر، لن يمضي اليوم على خير". بعد أن سلم وهم بالقيام.

- يا بيه، حضرت المدير عاوزك ضروري دلوأت.

المدير خلف المكتب بصلعته الكبيرة وأوداجه المنتفخة وبشرته الوردية. نظر إليه من خلف عدسات نظارتيه الغليظتين.

- أهلاً شيخنا، تفضل واجلس.

بعد فترة صمت قصيرة.

- أكيد أنك تعلم سبب استدعائك.

رسم على وجهه ملامح التعجب.

- لا والله أستاذ، خير ان شاء الله؟!

رد عليه بنبرة صوت أعلى قليلاً وذات معنى.

- يا شيخنا حضرتك أستاذ دين، وهكذا تشتم الطلاب وتطردهم من الحصة؟ أليس التعليم عبادة؟ لماذا هذا التقصير يا أستاذ!

أجاب غاضباً وقد احمر وجهه.

- يا حضرة المدير، لم ولن أسمح لأي أحد بأن يتهمني مثل هذه الاتهامات. أنا لم أخطئ، باسل ولد غير مؤدب وهو يستحق الطرد. كان يعطل سير العملية التعليمية، وبعد أن نبهته عدة مرات أصر على الخطأ وأهانني أمام باقي الطلبة.

- يا أستاذ، ألا تعرف باسل ابن من؟ لا داعي لتذكيرك بأن أباه أحد أكبر المساهمين في هذه المدرسة العريقة.

- إذاً هذا هو السبب الحقيقي. أليس كذلك؟ وأنا ماذا أستفيد من هذه المدرسة؟ هذا المرتب الضئيل الذي لا يكفي لسد نفقات بيتي وأسرتي الكبيرة؟ عن أي مدرسة عريقة تتحدث؟ عن مدرسة تدلل وتفسد أبناء المساهمين فيها على حساب باقي الطلبة؟ ياأستاذ هذه مدرسة وليست دكاناً لبيع البطاطا.

نظر إليه المدير متعجباً. إنها المرة الأولى التي يراه فيها يتصرف بهذا الشكل.

- يا أستاذ احترم مهنتك. أنت أستاذ وإنسان متعلم ومثقف وجامعي ولا يجب أن تتحدث بهذا الشكل المخزي. أنظر إلى زملائك والطلاب في الخارج، إنهم ينظرون إلينا بفضول وقد تسببت لنا بالفضيحة. كيف سنبرر هذا للمساهمين غداً؟

- برر أو لا تبرر هذا شأنك، وإذا كانت شهادتي الجامعية ستذلني سأحفر حفرة في التراب وأطمرها وأتبرز عليها، ويمكنك أن تعتبرني مستقيلاً من هذه اللحظة.

هذا ما حدث قبل دقائق مضت كالساعات. رمى برأسه إلى الخلف على مسند المقعد ووضع يديه على المقود وفكر بما سيقوله لزوجته عندما يعود. ام أحمد امرأة نكدة وكثيرة اللوم. معها كل الحق في ذلك فالحياة معه ومع مزاجه الصعب ومع راتبه القليل تكاد تكون مستحيلة. وضع أصابعه في لحيته وهو يفكر في ابنه الذي يدرس في الجامعة ومصاريفه الكثيرة وإهماله وتأخره في المواد. فكر في ابنتيه وابنه الصغير أيضاً. باغتته فكرة مفاجئة "لقد طالت لحيتي كثيراً". فكرة أخرى خطرت في باله "لقد تعجلت. يجب أن أعود ةعتذر وأطيب خاطر المدير، ولكن ليس الآن، سيكون غاضباً. غداً سيكون خياراً أفضل. يلعن أبو الشيطان". ثم استدرك "يلعن أبو الحاجة".

كيف انتهى به المطاف إلى هذا النوع من الحياة؟ لم يختر أي جزء منها تقريباً. الظروف والآخرون كانوا يسيرونه دائماً. كان يريد أن يدرس الفلسفة فاصطدم مع أبيه الشيخ الأزهري.

- تريد أن تدرس الفلسفة، هذا العلم الكافر. ألا يكفي تلك السموم التي تقرؤها أنت وأصحابك الشيوعيون.

لم يستطع إقناع أبيه بأنهم يساريين.

- يا أبي نحن يساريون، يساريون ولسنا شيوعيين.

- كله محصل بعضه يا بني، الكفر ملة واحدة، الله يهديك. ستدرس الشريعة مثل أبوك وتصبح علاًمة يحترمك الجمبع.

فكان كما أراد الوالد. لم ينسجم في محيطه الجامعي. طالب الشريعة اليساري. الشيوإسلامي كما كان أصدقاؤه يطلقون عليه. "يا جماعة، لست شيوعياً، أنا مسلم يساري".

تكرر المشهد خارج الجامعة، حيث لم تقبل الدولة توظيفه بسبب "عدم استكمال معاملاته"، أي بعد تحقيقات وساعات طويلة قضاها في ذلك المبنى الذي ليس عليه يافطة. إلا أن أباه استطاع أن يحصل له وظيفة في هذه المدرسة عن طريق أحد المعارف من المساهمين. وتتباعت القصة.

- ستتزوج ابنة عمك.

وهكذا كان أيضاً. أولاد ومشاغل حياة وهكذا مضت السنين إلى أن جاءت الصدمة الكبرى، سقوط بغداد. ومع مضي الأبام وتضاؤل الحلم بالقومية وانهيار الأفكار اليسارية بدأت اللحية بالنمو والاستطالة، والنفس بالانكسار والاستسلام. حياة بأكملها على الهامش لدرجة أنه استطاع أن يستعرضها بدقائق قليلة.

أدار محرك السيارة والمذياع. سمع بنشرة الأخبار الاقتصادية:

- المؤشرات الاقتصادية العالمية خطيرة، العالم سيدخل في فترة أزمة مالية، وعدد من البنوك الكبرى في أمريكا وشركات السيارات تعلن إفلاسها و الاقتصاديون يراجعون الأفكار الاقتصادية.

أحس بنشوة عارمة. "بدأت الرأسمالية العفنة بالانهيار". خطرت بباله فكرة مجنونة. توقف إلى جانب الطريق وفتح جيب التابلو وبحث بين أشرطة الكاسيت المتراكمة عن شريط يذكر أنه سقط سهواً من محرقة الأشرطة التي قام بها. فكر ضاحكاً "هو شيخ أيضاً".

أخرج الشريط وقد تراكم عليه الغبار. وضعه في المسجل ليصدح صوت الشيخ إمام وغنى معه طوال الطريق "شرفت يا نيكسون بابا يا بتاع الووتر غيت". أحس بفرحة انتصار ليس له أي فضل فيه.

هناك 3 تعليقات:

  1. القصه جميله..لكن كان افضل لو انك راكمت على الاستاذ عوامل القهر حتى تجعله يثور..مقولة ابن احد ملاكي المدرسه ,مستهلكه بعض الشيء..الاهم كان القهر الابوي والاجتماعي وقهر النظام الراسمالي
    معن

    ردحذف
  2. أبارك لنفسي وأشكرك على أول تعليق، والأهم كونه نقد بناءعلى مدونتي العزيزة. أرجو الاستمرار في ذلك قدرما أمكن. وٍسأحسن وأدخل ما أستطيع من تعديلات.
    حاولت أن أراكم الهموم بشكل غير مباشر. إلا أن هذا الحدث قبل الثوران هو حدث هامشي أدى إلى ثورة مفاجئة في شخصيته المهزوزة والمهزومة. وتتابعت التفاصيل لتثبت ذلك. قد أكون مخطئا إلا أني لا أؤمن بضرورة ترتيب القصة بشكلها الكلاسيكي: تصاعد الأحداث إلى الوصول إلى الذروة.
    المقولة مستهلكة فعلا و \يجب إعادة صياغتها في المستقبل.
    الشكر الجزيل لك مرة أخرى.

    ردحذف
  3. شكرا هاني

    ردحذف