كان صيفاً قائظاً، وانعكاس أشعة الشمس تكاد تعمي الأبصار. رمال الصحراء والغبار على مد البصر، فضلاً عن الرطوبة التي لا تحتمل. لا ماء ولا خضراء ولا وجه حسن. ولا حتى ضحكة طفولية تحد من خشونة هذا الجو الرجولي. لا يعرف المرء أهمية عناصر اتزان الكون هذه حتى يفقدها. هذه الأجواء هي التي تعمل بها الشركة غالباً، خصوصاً في مشاريع المقاولات الخاصة بآبار الغاز والنفط الخليجية. أعداد كبيرة من المهندسين والمقاولين والموظفين والعمال في سكن أشبه ما يكون بالمعتقل في صحارى نائية، سكن مكون من صفوف متوازية من الكارافانات المحاطة بسياج، وكأنها في نهاية العالم.
في مثل هذه الظروف عشت أنا شهراً فقط، وعاش أبو جورج سنين طويلة. تشهد على ذلك بشرته التي صبغتها الشمس بلون شديد السمرة، وملامحه التي تأثرت بحياة الصحاري، حتى لم يعد بالإمكان التنبؤ بأصله المدني المنتمي إلى إحدى عائلات القدس العريقة إلا من لهجته المميزة.
وأبو جورج أفنى حياته في هذه الشركة كما أشرت سابقاً. بدأ فيها مقاولاً صغيراً بعد أن خرج من القدس إلى الكويت إثر نكسة عام 1967، وبقي معها تكبر ويكبر حتى أصبحت من أكبر شركات المقاولات العالمية، وهو من أكبر موظفيها عمراً. هو فخور جداً، بل وحريص على إعلام الجميع في أي جلسة مسائية عن علاقته (الوطيدة) بمالكي الشركة. حيث يدعي أنه كان أحد المتواجدين الدائمين على موائدهم وفي حفلاتهم، ويروي كيف رافقهم في أسفارهم. هذا يتناقض طبعا مع رتبته المتواضعة نسبياً في هذه الشركة العملاقة، إلا أن الجميع يدعونه يتحدث كما يشاء دون أن يقاطعوه إما احتراماً لسنه وإما خوفاً من موجة غضب قد تنتابه ككثير من اللواتي انتبنه أثناء وجبات الطعام فرمى الصينية بما عليها على الأرض، فتناثر الزجاج ممتزجاً مع الطعام على أرض الصالة.
تعرفت عليه في إحدى السهرات في نادي السكن. كنت حريصاً على ذلك يدفعني الفضول لمعرفة هذا الإنسان ذو الطباع الغريبة. كان في هذه السهرة، كما في كل جلساته، متقمصا ًشخصية القائد ومسيطراً على الحوار. كنت أستمع إليه بل وأجاريه في كلامه حتى كسبت وده، فأصبح يلقي السلام علي عندما يراني، وجلسنا على مائدة الطعام معاً مرات عدة، رغم أنه لا يحب الاختلاط بمن هم في مثل سني من الشباب.
حين عرفته وبعد أن روى لي قصة حياته أحسست بالرثاء لحاله. هذا رجل مسكين لم ير في عمره الكثير من الأيام الجميلة. زوجته لا تعرف من زوجها الغريب إلا تحويلات الرواتب الشهرية و ذلك الرجل الذي يأتي لمدة أسبوعين ثلاث أو أربع مرات في السنة. بل إن له عدداً من الأولاد والأحفاد الذين لا يكاد يعرفهم. فهو لم يكن حاضراً عند ولادة معظمهم، ولم يكن موجوداً عندما نطق فلان كلمة (بابا) لأول مرة أو خطا أول خطوة. حتى بيته الكبير الذي أنشأه في عمان منذ سنوات لم يتح له العيش فيه.
في الجمعة الثالثة من مجيئي للشركة، وكان يوم الجمعة هو يوم الاستراحة الوحيد، استيقظت واغتسلت وارتديت ثياناً أنيقة وتعطرت استعداداً لقضاء يوم الإجازة في المدينة كما فعلت في الجمعتين السابقتين. ذهبت بعدها إلى صالة الطعام لتناول الإفطار، ثم إلى الصلاة، وبعد ذلك إلى غرفة التلفاز إلى حين موعد انطلاق الحافلة.
كان في الغرفة مجموعة من اللبنانيين يتابعون الأخبار والمقابلات على الفضائيات اللبنانية، حيث كانت لبنان قاب قوسين أو أدنى من اشتعال حرب أهلية جديدة في ذلك الصيف. وبينما هم كذلك دخل أبو جورج وتناول الريموت كونترول وغير القناة إلى الجزيرة التي كانت تعرض فيلم (فهرنهايت 9/11) لأول مرة. طلب منه أحدهم أن يعيد القناة فصرخ عليه فاستاء الشباب وخرجوا متمتمين بالشتائم. التفت إلي قائلا: (يا زلمة زهأوناحياتنا هاللبنانيين، كأنو مافي غيرهم بهالشركة، إي مو الحأ عليهم، الحأ علي بوظفهم). أشحت عنه بوجهي متصنعاً الابتسام.
وبينما نحن نتابع الفيلم، دخل إلى الغرفة ثلاث شباب مصريين. طلبو منه بكل أدب أن يحول القناة إلى قناة أفلام ستعرض فيلماً جديداً للممثل أحمد حلمي، فرفض وقال :(مو شايفينا عم بنتابع هالفيلم؟! أما جيل سخيف بس بدكو أفلام وأغاني). وعندما وصل الفيلم إلى نقطة مثيرة وشد انتباهنا قام أبو جورج وبكل برود أعصاب بتغيير القناة. في هذه الحظة لم يطق الشباب الموقف وخرجوا من الغرفة. نظر إلي أبو جورج نظرة المنتصر وقال مبتسماً: (شايف كيف خليتهم يطلعوا، أما شباب هايفين، هدول بدهم يحرروا القدس؟! أما جيل والله!).
في هذه اللحظة لم أستطع الاستمرار في مجاراته، فوقفت عازماً على الخروج وليذهب أبو جورج وتلفازه بقنواته إلى الجحيم وإذا به ينظر إلي متعجباً: (لوين عمي؟!) قلت له: (خلص مو مشكلة عمي بدي أروح). فرد علي بلهجة أخرى لم أسمعه يتكلم بها سابقاً: (خليك عمي عندي). رددت عليه كاذباً بأني أحتاج الذهاب لغرفتي قبل موعد الحافلة. فقال بلهجة يملؤها الرجاء: (ما تزعل مني عمي، خلص خليك هون معي و خد الريموت، حط على القناة اللي بدك إياها، بس ما تتركني لحالي، مشان الله عمي والله زهآن كتير).
عندها أحسست بحزن شديد وعاطفة قوية نحوه، فرجعت إلى مقعدي وجلسنا نتحدث ونتحدث حتى ذهب موعد الحافلة، وقضيت اليوم إلى المساء معه. وعندما رجعت إلى غرفتي جافاني النوم في تلك الليلة، فقد كنت نويت الذهاب إلى الإدارة صبيحة اليوم التالي لأكتب استقالتي.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق